لفظ (البر) في القرآن الكريم
لفظ (البر) في القرآن الكريم
ثمة ألفاظ في القرآن الكريم إذا طرقت سمعك فتحت لك آفاقاً واسعة من المعاني، وأفاضت عليك كثيراً من الدلالات، من ذلك لفظ (البر)، فما حقيقة هذا اللفظ لغة، وما هي الدلالات التي جاء عليها في القرآن الكريم؟ :
ذكر ابن فارس في "مقاييسه" أن مادة (برَّ) بتشديد الراء تفيد أربعة أصول:
الأول: الصدق. يقال: برَّ فلان، إذا صَدَق بقوله، أو بما وعد به. وبرَّت يمينه: صدقت. وأبرَّ بيمينه: أمضاها على الصدق. وتقول: برَّ الله حجك وأبره، وحجة مبرورة: قُبِلَت قَبول العمل الصادق. ومن ذلك قولهم: يَبَرُّ ربه، أي: يطيعه. وهو من الصدق. ومن هذا الباب قولهم: هو يَبَرُّ ذا قرابته، وأصله الصدق في المحبة. ويقال: رجل بِرٍّ وبار: رجل صِدْق. وأبرَّ الرجل: رُزق بأولاد أبرار. الجواد (المُبِرُّ) هو من هذا؛ لأنه إذا جرى صدق، وإذا حمل صدق.
الثاني: خلاف البحر. يقال: أبرَّ الرجل: صار في البَرِّ، بعد أن كان راكباً في البحر. والعرب تستعمل ذلك نكرة، يقولون سافرت بَرًّا، وسافرت بحراً. والبرَّية: الصحراء. واعتبر الأصفهاني أن (البِرَّ) بكسر الباء مأخوذ من هذا الأصل بجامع التوسع، فبعد أن ذكر أن (البَرَّ) بفتح الباء خلاف البحر، قال: "تُصُوِّر منه التوسع، فاشتق منه البِرُّ، أي: التوسع في فعل الخير".
الثالث: حكاية صوت. وهو البربرة: كثرة الكلام، والجلبة باللسان. ويقال: لا يَعْرِف هِرًّا من بِرٍّ. (الهِرُّ) دعاء الغنم، و(البِرُّ) الصوت بها إذا سيقت. يقال لمن لا يَعْرِف من يكرهه ممن يَبَرُّه.
الرابع: اسم نبات. منه البُرُّ: وهي الحنطة، الواحدة: بُرَّة. يقال: أبرت الأرض: إذا كثر بُرُّها. ويقال للخبز: ابن بُرَّةُ، غير مصروف.
ولفظ (البر) ورد في القرآن الكريم في اثنين وثلاثين موضعاً، جاء في ثلاثين منها بصيغة الاسم، من ذلك قوله تعالى: {أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم} (البقرة:44)، وجاء في موضعين فقط بصيغة الفعل، الأول: قوله عز وجل: {ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا} (البقرة:224). والثاني: قوله تعالى: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم} (الممتحنة:
.
ولفظ (البر) ورد في القرآن الكريم على عدة معان، هي:
الأول: البَرُّ -بفتح الباء- خلاف البحر، جاء على هذا المعنى في عدة مواضع من ذلك قوله تعالى: {ظهر الفساد في البر والبحر} (القصص:41). وقوله عز وجل: {وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما} (المائدة:96). وأكثر ما جاء لفظ {البر} على هذا المعنى في القرآن الكريم.
الثاني: البَرُّ -بفتح الباء- اسم من أسماء الله، بمعنى اللطيف، جاء على هذا المعنى قوله تعالى: {إنه هو البر الرحيم} (الطور:28)، يعني: اللطيف بعباده. روى الطبري عن ابن عباس رضي الله عنهما، قوله: {إنه هو البر}، يقول: اللطيف. وليس غيره في القرآن الكريم على هذا المعنى.
الثالث: البَرُّ -بفتح الباء- الصدق في فعل ما أمر الله، وترك ما نهى عنه، من ذلك قوله تعالى: {إن كتاب الأبرار لفي عليين} (المطففين:18)، {الأبرار} جمع بَرٍّ: وهم الذين صدقوا الله بأداء فرائضه، واجتناب محارمه. نظيره قوله تعالى: {إن الأبرار لفي نعيم} (الانفطار:13)، أي: إن الذين صدقوا بأداء فرائض الله، واجتناب معاصيه لفي نعيم الجنان، ينعمون فيها. ومنه أيضاً قوله عز وجل: {إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا} (الإنسان:5)، يعني: المؤمنين الصادقين في إيمانهم، المطيعين لربهم.
الرابع: البِرُّ -بكسر الباء- بمعنى طاعة الله سبحانه وتعالى، من ذلك قوله تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى} (المائدة:2)، أي: تعاونوا على طاعة الله، وفعل ما يُرضيه. وعلى هذا المعنى أيضاً قوله عز وجل: {إن الأبرار لفي نعيم} (الانفطار:13)، أي: إن أهل طاعة الله في مقام النعيم. وقوله تعالى: {أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم} (البقرة:44) مراد به هذا المعنى كما ذكر الطبري وغيره. ومن هذا القبيل أيضاً قوله عز وجل في وصف الملائكة: {كرام بررة} (عبس:16)، أي: مطيعين، جمع بار.
الخامس: البِرُّ -بكسر الباء- بمعنى الجنة، من ذلك قوله تعالى: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} (البقرة:92)، روى وكيع في "تفسيره" عن عمرو بن ميمون، قال: {البر} الجنة. قال الطبري: "قال كثير من أهل التأويل: (البر) الجنة؛ لأن بِرَّ الله بعبده في الآخرة، إكرامه إياه بإدخاله الجنة". ونقل البغوي أقوالاً أُخر في معنى {البر} في الآية، والمعتمد ما ذكره الطبري؛ لأنه هو المروي عن ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهما.
السادس: البِرُّ -بكسر الباء- بمعنى فعل الخير، من ذلك قوله عز وجل: {ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب} (البقرة:177)، قال البغوي: "{البر} كل عمل خير يفضي بصاحبه إلى الجنة". وبحسب هذا المعنى قوله سبحانه: {ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس} (البقرة:224)، قال الطبري: عنى به فعل الخير كله؛ وذلك أن أفعال الخير كلها من (البر)، قال هذا تعقيباً على من حمل (البر) هنا على معنى صلة الرحم.
السابع: البِرُّ -بكسر الباء- بمعنى الإحسان إلى الغير، من ذلك قوله عز وجل: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم} (الممتحنة:
، قال ابن كثير: أي: تحسنوا إليهم. وعلى هذا قوله تعالى في وصف النبي يحيى عليه السلام: {وبرا بوالديه} (مريم:14)، أي: باراً لطيفاً بهما، محسناً إليهما. وبعضهم فسر (البر) في الآية الأخيرة بمعنى (الطاعة)، أي: كان مطيعاً لوالديه، غير عاقٍّ بهما. وهذا القول لازم القول بالإحسان إليهما.
وحاصل الأمر: أن تتبع لفظ {البر} في القرآن الكريم يُظْهِرُ أن هذا اللفظ جاء في أكثر مواضعه القرآنية بمعنى (البَّر) الذي هو خلاف البحر، وهو معنى مادي بحت. وجاء بمعانٍ أُخر، منها: فعل الخير، اسم من أسماء الله تعالى، اسم للجَنَّة، طاعة الله، الإحسان للغير، الصدق بالالتزام بما شرع الله فعلاً ونهياً.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم وصلى الله وسلم على نبينا محمد والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
نفعنا الله وإياكم
والحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.